Tuesday, November 20, 2007

الفرقة الناجية .. و الاستئثار بالجنة

حديث الفرقة الناجية المشهور بين الناس و الذى يدور حول انقسام الأمة الإسلامية إلى ثلاث و سبعين فرقة .. كلها فى النار إلا واحدة .. يتعامل معه الكثير من الناس بشكل غير سليم.. إلى جانب أن ذلك التعامل الخاطئ أحدث حالة من التفتت فى جسد الأمة بادعاء كل فرقة أنها هى التى تمتلك الحق و هى الأقرب لاتباع سنة النبى صلى الله عليه و سلم .. و ذلك محاولة لها للنجاة من النار و الفوز بالجنة باعتبارها هى الفرقة الناجية
ا
سنتناول هذا الحديث إن شاء الله أولا من ناحية السند (تناول نصى) ثم ثانيا من ناحية المتن (تناول عقلى) ثم ثالثا من ناحية الاستدلال به
ا
أولا: سند الحديث .. تناول نصى
------------------
ا
ا- ذلك الحديث برواياته المتعددة لم يرد فى الصحيحين.. لا فى البخارى و لا فى مسلم
ا
ب- كتب الحديث الأخرى التى ذكرته ذكرت له روايات كثيرة فيها "ألا إن من كان قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين و سبعين فرقة و إن هذه الأمة ستفترق على ثلاث و سبعين, اثنتان و سبعون فى النار و واحدة فى الجنة" و فى رواية أخرى "ستفترق أمتى على نيف و سبعين فرقة, الناجية منها واحدة" و فى أخرى "كلها فى الجنة إلا واحدة
ا
ج- عرف عن هذا الحديث برواياته المتعددة أنه "حديث صحيح" و لكن ذلك أمر يحتاج إلى إيضاح. فليست كل الروايات صحيحة و إنما كلها ضعيفة إلا رواية واحدة و هى الرواية التى ذكرت افتراق الأمة و ذكرت عدد الفرق و لم تذكر أنها كلها فى النار إلا واحدة و الرواية هذه هى حديث أبى هريرة الذى رواه أبو داود و الترمذى و بن ماجة و بن حبان و الحاكم و فيه يقول: "افترقت اليهود على إحدى – أو اثنتين – و سبعين فرقة و تفترق أمتى على ثلاث و سبعين فرقة".. و إذا نظرنا لسند ذلك الحديث وجدنا فيه "محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثى" و هو لم يوثقه أحد بإطلاق بل قالوا فيه أنه صدوق له أوهام.. و الصدق وحده لا يكفى ما لم ينضم إليه الضبط .. فكيف إذا كان به أوهام؟ لذلك لم يعد هذا الحديث صحيحا لذاته .. و إنما قالوا عنه أنه حديث صحيح و ذلك لتعدد رواياته الغير صحيحة فقيل عنه أنه "صحيح لغيره" أى ليس صحيحا فى ذاته.. و هذه الرواية التى ذكرناها للحديث و التى تعد أقوى طرقه نجدها فى أقل درجات الصحة و هى "الصحيح لغيره" .. و أيا كان فإن الحديث خلا من عبارة "كلها فى النار إلا واحدة" و هى النقطة الدائر حولها الحوار.. أما ما دون هذه الرواية فهى روايات ضعيفة إنما قووها بانضمام بعضها إلى البعض و الذى يراه بعض العلماء أن التقوية بكثرة الطرق لا يؤخذ بها دائما خاصة و الأمر هنا يدور حول عصب الدين و هو أمور العقائد التى تستوجب التوثيق الشديد
ا
د-يقول الإمام بن حزم: إنها موضوعة لا موقوفة و لا مرفوعة و كذلك جميع ما ورد فى ذم القدرية و المرجئة و الأشعرية فإنها أحاديث ضعيفة غير قوية
ا
هـ - أما العلامة بن الوزير فى حديث افتراق الأمة إلى نيف و سبعين فرقة كلها فى النار إلا فرقة واحدة فيقول: فى سنده ناصبى فلم يصح عنه
ا
و- يقول الإمام الشوكانى: أما زيادة "كلها فى النار إلا واحدة" فقد ضعفها جماعة من المحدثين
ا
إلى جانب الكثير من آراء العلماء التى تركتها لعدم التطويل
ا
ثانيا: متن الحديث و معناه.. تناول عقلى
------------------
ا
أما و قد تحدثنا عن سند الحديث.. فالآن نتحدث عن متنه و معناه و دلالاته أو بمعنى آخر سنركز على النقد العقلى الذى وجهه العلماء لمتن الحديث
ا
ا- رأى حجة الإسلام أبى حامد الغزالى يتلخص فى أنه لا يحصر النجاة –بمعنى دخول الجنة و صحة الإيمان- فى فرقة واحدة كما يجعل الهلاك من نصيب المكذبين للرسول و ذلك بدلا من تفسير غلاة التعصب الذين يجعلون الهلاك من نصيب اثنتين و سبعين فرقة ما عدا فرقتهم التى يحتكرون لها صحيح الإيمان و النجاة
ا
ب- يقول العلامة بن الوزير: و إياك الاغترار بـ "كلها هالكة إلا واحدة" فإنها زيادة فاسدة غير صحيحة القاعدة و لا يؤمن أن تكون من دسيسة الملاحدة
ا
ج- يقول الشيخ الدكتور القرضاوى: و فى متن هذا الحديث إشكال من حيث إنه جعل هذه الأمة التى بوأها الله منصب الشهادة على الناس و وصفها بأنها خير أمة أخرجت للناس أسوأ من اليهود و النصارى فى مجال التفرق و الاختلاف حتى إنهم زادوا فى فرقهم على كل من اليهود و النصارى
و قال أيضا: ثم إن هذا الحديث حكم على فرق الأمة كلها – إلا واحدة - بأنها فى النار هذا مع ما جاء فى فضل هذه الأمة و أنها مرحومة و أنها تمثل ثلث أهل الجنة أو نصف أهل الجنة. على أن الخبر عن اليهود و النصارى بأنهم افترقوا إلى هذه الفرق التى نيفت على السبعين غير معروف فى تاريخ الملتين و خصوصا عند اليهود فلا يعرف أن فرقهم بلغت هذا المبلغ من العدد
ا
د- و رأى الدكتور محمد عمارة يتلخص فى أن واقع الفرق الإسلامية لا يمكن التعبير عنه بأى حال من الأحوال بالعدد ثلاث و سبعين فرقة.. فهى عند الأشعرى تزيد عن المائة و الشهرستانى عدهم ستا و سبعين فرقة و بن حزم عدهم خمس فرق و الملطى عدها أربعا و القاضى عبد الجبار عدها خمسا و الخوارزمى عدهم سبعا
ا
هـ- - رأى الدكتور عبد الرحمن بدوى يمكن حصره فى النقاط الثلاث التالية
ا* إن ذكر هذه الأعداد المحددة المتوالية 71-72-73 أمر مفتعل لا يمكن تصديقه فضلا أن يصدر مثله عن النبى
ا* لا نجد لهذا الحديث ذكرا فيما ورد لدينا من مؤلفات القرن الثانى بل و لا الثالث الهجرى و لو كان صحيحا لورد فى عهد متقدم
ا* أعطت كل فرقة لختام الحديث الرواية التى تناسبها فأهل السنة جعلوا الفرقة الناجية هى أهل السنة و المعتزلة جعلوها فرقة المعتزلة و هكذا
ا
و- رأى الدكتور محمد سيد أحمد المسير يمكن اختصاره فى نقطتين
ا* مفهوم الأمة فى الحديث هو "أمة الدعوة" و ليست "أمة الإجابة" .. و أمة الدعوة المقصود بها هو كل البشر الذين أرسل اللهُ النبىَ إليهم بالدعوة .. و أمة الإجابة هم الذين أجابوا النبى إلى الإسلام
ا* بافتراض أن المقصود بالأمة هو "أمة الإجابة" .. فإن إنحصار الصواب فى فرقة واحدة من الأمة و التسليم بكل آرائها هو غير ممكن .. إذ كل الفرق فيها الصواب و الخطأ.. و الميزان الصحيح هو أن ترد المسائل مسألة مسألة إلى كتاب الله و سنة رسوله
ا
ثالثا: الاستدلال بالحديث
------------------
ا
لنا هنا تعليق على الاستدلال بهذا الحديث فى الحكم على فرق الأمة و مذاهبها
ا
أ- ذلك الحديث هو حديث آحاد (أى أن عدد سلاسله السندية قلت عن عشر سلاسل) أى ليس متواترا و شرط التواتر اشترطه غالبية فقهاء الأمة من شافعية و حنفية و مالكية بل و حنبلية و غالبية متكلمى الأمة و علمائها عند الاستعانة بحديث ما فى أمور العقائد .. و لا يوجد إلا "أهل الحديث" و على رأسهم الإمام أحمد بن حنبل و بعض العلماء المعاصرين الذين يكتفون بكون الحديث آحادا فقط فى الاستدلال به فى أمور العقائد.. لاحظوا أن من الحنابلة من اشترط التواتر فبالتالى ذلك الحديث –إن صح- لا يعتد به فى أمور العقائد طبقا لغالبية علماء الأمة
ا
ب- حتى مع الذين يقولون بحجة حديث الآحاد فى أمور العقائد.. الحديث الذى صح هنا أصبح "صحيحا لغيره" أى أنه فى ذاته ليس صحيحا.. إلى جانب أن الحديث الصحيح الذى ذكرناه يخلوا من "كلها فى النار إلا واحدة" فلا يحق لأحد اعتمادا على هذا الحديث أن يحكم على فرقة أو مذهب ما أنه فى النار.. و إلا هل نرضى لحديث له هذه الدرجة الواهية من الصحة أن يكون حكما على عقائدنا ؟؟
ا
ج- يقول بن حزم بعد أن ذكر الحديثين "القدرية و المرجئة مجوس هذه الأمة" و "تفترق هذه الأمة على بضع و سبعين فرقة كلها فى النار حاشا واحدة فهى فى الجنة" يقول: هذان حديثان لا يصحان أصلا من طريق الإسناد و ما كان هكذا فليس حجة عند من يقول بخبر الواحد فكيف من لا يقول به؟
ا
د- و نختم القول بقول الشيخ الدكتور القرضاوى فهو يقول: ثم إن الحديث يدل على أن هذه الفرق كلها جزء من أمته صلى الله عليه و سلم أعنى أمة الإجابة المنسوبة إليه بدليل قوله: "تفترق أمتى" و معنى هذا أنها – برغم بدعتها –لم تخرج عن الملة و لم تنفصل من جسم الأمة المسلمة و كونها فى النار (إن اعتبرنا عبارة "كلها فى النار إلا واحدة") لا يعنى الخلود فيها كما يخلد الكفار بل يدخلونها كما يدخلها عصاة الموحدين
ا
فى النهاية..نرى أن ذلك الحديث الذى يلقى بالأمة فى النار إلا قليلا منهم هو حديث ضعيف .. و ذلك الحديث الذى يقول بانقسام الأمة هو حديث آحاد "صحيح لغيره" أى أوهن درجات الصحة فمن أراد أن يحكم به على عقائد الأمة فيبدع هذا و يفسق ذلك و يكفر هؤلاء و يقضى بالنار على آخرين و تمسك فقط بما شذ من الآراء و ما انحرف من الأفكار متكئا على ذلك الحديث فليحذر كل الحذر من قولة فى غير موضعها أو حكم ظنى غير صحيح يحكم به على هذه الفرق يحمل به إثما من اثنتين و سبعين فرقة من أمة النبى صلى الله عليه و سلم هذا لمن يعتبر العدد صحيحا
----------------
ا
ملحوظة: نظرا لأن الموضوع يدور حول أمر مهم و هو أمر العقائد ففضلت أن أكتب أسماء الكتب التى أخذت منها محتويات هذه التدوينة
ا
الصحوة الاسلامية بين الاختلاف المشروع و التفرق المذموم الشيخ الدكتور يوسف القرضاوى
مقدمة فى دراسة الفرق الإسلامية الدكتور محمد سيد أحمد المسير
الإسلام و فلسفة الحكم الدكتور محمد عمارة
الإسلام و التعددية الدكتور محمد عمارة
فى فقه الحضارة الإسلامية الدكتور محمد عمارة
فتنة التكفير بين الشيعة و الوهابية و الصوفية الدكتور محمد عمارة
مذاهب الإسلاميين الدكتور عبد الرحمن بدوى

Sunday, November 4, 2007

ملائكة و شياطين

ملائكة و شياطين ... و الصراع بين العقل و بين الدين
----------------------------
ملائكة و شياطين هو عنوان إحدى روايات "دان براون" مؤلف الرواية الشهيرة "شيفرة دافنشى".. محور رواية "ملائكة و شياطين" هو المحاولة التى يقوم بها أحد قساوسة الفاتيكان للقيام بعمل يظهر أمام الناس كأنه معجزة دينية و وحى سماوى لتدهش عقول الناس فتكون وسيلة لاجتذابهم أكثر و أكثر الى "الدين" و إلى الكنيسة و ذلك بعد أن رأى ذلك القس أن الناس غرقوا فى "المادية" و توغلت "العلمانية" فى حياتهم.. فى خضم أحداث الرواية نستطيع أن نرى إلى أى مدى هناك صراع و تناقض فى الحضارة الغربية بين "العلم" و "الدين".. و يتضح ذلك أكثر إذا تذكرنا الدور الذى كانت تقوم به الكنيسة قديما من وصاية دينية على الناس و كونها الواسطة بين الناس و بين الله و سعى الكنيسة لبسط سيطرتها على كل الناس فمنعت أى محاولة للتفكير المنطقى و العلمى السليم. و ذلك لأن أى محاولة للتفكير العلمى المنظم كانت ستؤدى بالضرورة حتما إلى تحجيم نفوذ الكنيسة و كشف سلطتها المزيفة ..كل ذلك أدى إلى تشدد الكنيسة فى رفضها و إنكارها كل ما هو عقلى من أصغر محاولة عقلية للتفكير السليم إلى أكبر الاختراعات و الاكتشافات التى قام بها الكثير من العلماء مثل جاليليو(1564-1642م) حينما نادى بمركزية الشمس و بدوران الأرض حولها و رموه بالزندقة و الإلحاد (يذكرنى ذلك برأى الشيخ بن باز بعد أربعة قرون أى فى القرن العشرين الذى يقول:"أما دورانها فقد أنكرته وبيَّنتُ الأدلة على بطلانه ، ولكني لم أكفِّر من قال به ، وإنما كفَّرتُ من قال إن الشمس ثابتة غير جارية ؛ لأن هذا القول مصادم لصريح القرآن الكريم والسنَّة المطهرة الدالَّين على أن الشمس والقمر يجريان" .. و ثبات الشمس المطلق لم يقل به أحد )ا

كل ما سبق كرس لدى الغرب أنه لتحقيق التقدم و الرقى المعتمد كليا على العلم.. وجب التخلص نهائيا من النفوذ الكنسى سواء كان نفوذا دينيا أو سياسيا و فى الطريق تم التخلص من الدين بالكلية مما أفرز ما يسمى بالـ"مادية" و ما يسمى بالـ"علمانية"ا
الخلاصة.. نجد أن تطور الحضارة الغربية اعتمد بشكل جذرى على فصل "العلم" عن "الدين" فصلا تاما و ذلك لعجز "الدين" المسيحى عن تحقيق متطلبات النمو الحضارى الطبيعى للإنسانية

على النقيض تماما نجد أن الدين الإسلامى استوعب استيعابا تاما كل مظاهر النشاط الإنسانى فقد استفاض الدين الإسلامى فى شرح و توضيح الثوابت التى لا يطالها تغيير و التى هى دائرة ضيقة جدا و نجد أيضا أن الإسلام تناول المتغيرات و الفروع (و هى المساحة الأوسع من الشرع) تناولا توقف عند ترسيخ القواعد و الأطر العامة و الفلسفات الكلية التى من خلالها يمكن للمتمكنين أن يستنبطوا حكما شرعيا لكل أمر مستجد من أمور الحياة بما يتوافق مع الظروف المتغيرة ما دمنا لا نمس الثوابت فى شىء

إقرأوا معى مقولة رائعة للرائع بن تيمية(661-728هـ) فى دور العقل: "وأما العقل فأخص صفات العقل عند الإنسان أن يعلم الإنسان ما ينفعه ويفعله ويعلم ما يضره ويتركه والمراد بالحسن هو النافع والمراد بالقبيح هو الضار فكيف يقال إن عقل الإنسان لا يميز بين الحسن والقبيح وهل أعظم تفاضل العقلاء إلا بمعرفة هذا من هذا؟ بل وجنس الناس يميل إلى من يتصف بالصفات الجميلة وينفر عمن يتصف بالقبائح. إن العقل يحب الحق ويعتد به وإن محبة الحمد والشكر والكرم هي من العقليات وإن للإنسان قوتين: قوة علمية فهي تحب الحق وقوة عملية فهي تحب الجميل والجميل هو الحسن والقبيح ضده

و هنا نستطيع أن ندرك مقدار دور "العقل" فى الإسلام.. فنجد "العقل" عنصرا هاما فى كل نشاطات المسلم.. حتى أن الإسلام لا يكلف مسلما إلا إذا كان عاقلا..نستطيع أن نخلص من هذا أنه فى الإسلام ذلك العداء بين "العقل" و "الدين" هو عداء مفتعل يرجع مصدره إلى فترات الجمود و التقليد التى مرت بها بلاد الإسلام بل نستطيع أن نقول أن ذلك العداء بين "العقل" و "الدين" يعتبر ردة فعل على محاولات التجديد و الإصلاح لأوضاع اكتسبت قدسية الثوابت نتيجة تراكمات أزمنة الجمود و ما هى من الثوابت فى شىء بل هناك من يقول أن هذا العداء بين "العقل" و "الدين" هو من الوافدات الغربية التى تحاول أن تقتحم حياتنا على غرار "العلمانية" و "المادية" و هى وافدات غير أصيلة بل دخيلة و لا يمكن أن تنتج شيئا فعالا و ذا قيمة و لكنها للأسف تلقى من يروج لها كما يوجد على الطرف الآخر من يروج للمادية و العلمانية

و هذه مقولات لكبار علماء الأمة عبر أزمنة متفاوتة فى إعلاء قدر العقل ..ليس فى العادى من الأمور بل فى أمور الأصول و أكرر الأصول فما بالنا بما دون الأصول فى الأهمية

يقول شيخ الإسلام بن تيمية(661-728هـ): إن ما عرف بصريح العقل لا يتصور أن يعارضه منقول صحيح قط. و قد تأملت ذلك فى عامة ما تنازع الناس فيه فوجدت ما خالف النصوص الصحيحة شبهات فاسدة يُعلم بالعقل بطلانها بل يُعلم بالعقل ثبوت نقيضها الموافق للشرع و هذا ما تأملته فى مسائل الأصول الكبار كمسائل التوحيد و الصفات و مسائل القدر و النبوات و المعاد و غير ذلك.. و وجدت ما يعلم بصريح العقل لم يخالفه سمع قط بل السمع الذى يقال أنه يخالفه إما حديث موضوع أو دلالة ضعيفة فلا يصلح أن يكون دليلا لو تجرد عن معارضة العقل الصريح فكيف إذا خالفه صريح المعقول ؟

و يقول الإمام الحارث بن أسد المحاسبى (195-243هـ): و بالعقل عرف الخلقُ اللهَ و شهدوا عليه بالعقل الذى عرفوه به من أنفسهم بمعرفة ما ينفعهم و معرفة ما يضرهم .. و به أقام الله على البالغين للحلم الحجة و إياهم خاطب من قِبَل عقولهم و وعد و توعد و أمر و نهى و حض و ندب

و يقول الإمام أبو الحسن الماوردى (364-450هـ): إن السبب المؤدى إلى معرفة الأصول الشرعية و العمل بها شيئان:
أحدهما: علم الحس و هو العقل لأن حجج العقل أصل لمعرفة الأصول إذ ليس تعرف الأصول إلا بحجج العقول
و ثانيهما: معرفة لسان العرب و هو معتبر فى حجج السمع خاصة


و يقول حجة الإسلام أبو حامد الغزالى(450-505هـ): إن مثال العقل: البصر السليم عن الآفات و الآذاء
و مثال القرآن: الشمس المنتشرة الضياء فأخلق بأن يكون طالب الاهتداء المستغنى بأحدهما عن الآخر, فى غمار الأغبياء فالمعرض عن العقل, مكتفيا بنور القرآن, مثاله: المتعرض لنور الشمس مغمضا للأجفان, فلا فرق بينه و بين العميان فالعقل مع الشرع نور على نور


أما الشيخ محمد بن عبد الوهاب(1115-1206هـ=1703-1792م) فيقول: فإذا قيل لك بم عرفت ربك فقل بآياته و مخلوقاته فمن آياته الليل و النهار و الشمس و القمر و من مخلوقاته السموات السبع و الأرضون السبع و من فيهن و ما بينهما

من هنا أستغرب على الدعاة و الشيوخ و المريدين و الشباب الذين بُح صوتهم و ارتفعت عقيرتهم و استنفدت هممهم فى ذم "العقل" و "العقلانية" و التنبيه على ذلك الخطر المسمى بـ "عقلنة الدين" و التحذير من ظهور ما يسمى بـ "المعتزلة الجدد" و من الذين يتعاملون بالعقل مع أمور الدين (!! إذ لا أدرى ما المشكلة فى ذلك). كل ذلك أدى بهؤلاء الدعاة و الشيوخ و أتباعهم و مريديهم إلى الفهم الحرفى للنصوص خوفا من أدنى مجهود عقلى يبذل فى فهم عميق للنصوص و عدم الاهتمام بما يسمى بالمقاصد و الغايات الشرعية إذ الفهم العميق للنصوص و استخراج المقاصد منها هو مجهود عقلى بالدرجة الأولى.. بل هذه الحملة على العقل أدت أحيانا إلى إغفال حقائق كونية قطعية بل أدت أيضا إلى إفراز من يفتى فتاوى ترجع إلى الوراء قرونا و لا علاقة لها بالواقع .. بل و الأدهى من ذلك هو الإنكار على كل من يخالف اجتهاداتهم.. و تميز لهجتهم بالحدة و العنف و تحذير الآخر بأنه يلعب بثوابت الشرع و تهديده بفساد العقيدة
باستعراض هذه الصورة أشعر و كأننا نسير فى طريق بسط نفوذ أهل الدين على عقائد سائر الناس الأمر الذى يشابه ما قامت به الكنيسة فى أوروبا .. قد تكون هذه مبالغة منى فى توقع ما ستؤول إليه الأمور و لكنه ليس من الممكن ببعيد.. و إن كنتم مستغربين مما أقول فإليكم هذا المقال الذى اجتهد صاحبه فى إيجاد العلاقة بين العقلانية و الإصلاح و بين النفاق و استفاض فى سرد الآيات القرآنية التى يظن أنها تدعم رأيه و هو منشور على موقع من أكثر المواقع الإسلامية انتشارا
ملاحظة: نستطيع أن نحدد من هم الشيوخ الذين تعلم منهم صاحب المقال و الذين أثروا على فكره من هذه الصفحة
أنا لا آخذ الشيوخ بذنب ذلك الكاتب و لكن وجب اعتبار الجذور كما ننظر إلى الثمار
و فى هذا المقال فى وصف أهل السنة و الجماعة نجد هذه الجملة :"رفضهم التأويل، واستسلامهم للشرع، مع تقديمهم النقل على العقل وإخضاع الثاني للأول" و هى تعتبر جملة غير دقيقة بالمرة إذ تقتضى اخضاع القطعى العقلى للظنى النقلى و هو ما لا يقول به الشرع و لكنها قد تصح فى حالة تعارض ظنى عقلى مع قطعى نقلى أو ظنيهما معا..أما مع رفضهم التأويل فلا أدرى كيف يوفقون بين ما تعارض من ظواهر النصوص و بين ما عرف بالعقول (الإمام أحمد بن حنبل بذاته لجأ إلى التأويل مع بعض النصوص)ا

و الكثير و الكثير مما يكرس لذم العقل و العقلانية و إغفال هبة التفكير مما يدفع بنا إلى الطاعة العمياء و الاستسلام إلى كل ما يقال لنا ممن يدعى العلم بالشرع دون فهم أو نقد أو مناقشة منا و الذى يؤدى إلى تكوين هالات من القداسة على هذا النوع من البشر من أمثال أنصاف العلماء أو الذى يدعى معرفته بالشرع أو من الذين سخرهم السلطان من العلماء لقيادة هذا الجيش من المستسلمين من الرعية بسوط "الدين" و يا مرحبا بالنفوذ الكنسى مرتديا زي المساجد
---------------------------------
تحديث
------
العلمانية:هى تعنى الدنيوى و العالمى.. أو بالأخص.. المقابل للـ"مقدس" الكهنوتى المحتكر لسلطة السماء.. و هو مفهوم غربى النشأة و يعنى باختصار أن العالم يتم تدبيره بأسباب من داخله .. و ليس بشريعة من خارجه

المادية: هى اتجاه فى التفكير و تناول القضايا (فلسفة) و هو يرى أن المادة هى الأصل للوجود و كل ما دونها ناشئ عنها.. فمثلا يرى أيضا أن "التفكير" هو "إفراز" ينتج عن الدماغ كما تفرز الغدد سوائلها.. فهى فلسفة ترى أن المعارف هى التى يتم إدراكها عن طريق الحس و التجريب هى فقط الجديرة بالاعتبار .. و ما دونها مما وراء الطبيعة فهى غير جديرة بالتصديق